سورة الروم - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)}
لما بين الأصلين ببراهين ذكر الأصل الثالث وهو النبوة فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً} أي إرسالهم دليل رسالتك فإنهم لم يكن لهم شغل غير شغلك، ولم يظهر عليهم غير ما ظهر عليك ومن كذبهم أصابهم البوار ومن آمن بهم كان لهم الانتصار وله وجه آخر يبين تعلق الآية بما قبلها وهو أن الله لما بين البراهين ولم ينتفع بها الكفار سلى قلب النبي صلى الله عليه وسلم وقال حال من تقدمك كان كذلك وجاءوا أيضاً بالبينات، وكان في قومهم كافر ومؤمن كما في قومك فانتقمنا من الكافرين ونصرنا المؤمنين، وفي قوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً} وجهان:
أحدهما: فانتقمنا، وكان الانتقام حقاً واستأنف وقال علينا نصر المؤمنين وعلى هذا يكون هذا بشارة للمؤمنين الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أي علينا نصركم أيها المؤمنون والوجه الثاني: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا} أي نصر المؤمنين كان حقاً علينا وعلى الأول لطيفة وعلى الآخر أخرى، أما على الأول فهو أنه لما قال فانتقمنا بين أنه لم يكن ظلماً وإنما كان عدلاً حقاً، وذلك لأن الانتقام لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلا زيادة الإثم وولادة الكافر الفاجر وكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث، وعلى الثاني تأكيد البشارة. لأن كلمة على تفيد معنى اللزوم يقال على فلان كذا ينبئ عن اللزوم، فإذا قال حقاً أكد ذلك المعنى، وقد ذكرنا أن النصر هو الغلبة التي لا تكون عاقبتها وخيمة، فإن إحدى الطائفتين إذا انهزمت أولاً، ثم عادت آخراً لا يكون النصر إلا للمنهزم، وكذلك موسى وقومه لما انهزموا من فرعون ثم أدركه الغرق لم يكن انهزامهم إلا نصرة، فالكافر إن هزم المسلم في بعض الأوقات لا يكون ذلك نصرة إذ لا عاقبة له.


{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)}
بين دلائل الرياح على التفصيل الأول في إرسالها قدرة وحكمة.
أما القدرة فظاهرة فإن الهواء اللطيف الذي يشقه الودق يصير بحيث يقلع الشجر وهو ليس بذاته كذلك فهو بفعل فاعل مختار، وأما الحكمة ففي نفس الهبوب فيما يفضي إليه من إثارة السحب، ثم ذكر أنواع السحب فمنه ما يكون متصلاً ومنه ما يكون منقطعاً، ثم المطر يخرج منه والماء في الهواء أعجب علامة للقدرة، وما يفضي إليه من إنبات الزرع وإدرار الضرع حكمة بالغة، ثم إنه لا يعم بل يختص به قوم دون قوم وهو علامة المشيئة. وقوله تعالى: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مّن قَبْلِهِ} اختلف المفسرون فيه، فقال بعضهم هو تأكيد كما في قوله تعالى: {فَكَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِي النار خالدين فِيهَا} [الحشر: 17] وقال بعضهم من قبل التنزيل من قبل المطر، والأولى أن يقال من قبل أن ينزل عليهم من قبله، أي من قبل إرسال الرياح، وذلك لأن بعد الإرسال يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس، فقبل المطر إذا هبت الريح لا يكون مبلساً، فلما قال من قبل أن ينزل عليهم لم يقل إنهم كانوا مبلسين، لأن من قبله قد يكون راجباً غالباً على ظنه المطر برؤية السحب وهبوب الرياح فقال من قبله، أي من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح وبسط السحاب، ثم لما فصل قال: {فانظر إلى ءاثار رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْىِ الموتى} لما ذكر الدلائل قال لمحيي باللام المؤكدة وباسم الفاعل، فإن الإنسان إذا قال إن الملك يعطيك لا يفيد ما يفيد قوله إنه معطيك، لأن الثاني يفيد أنه أعطاك فكان وهو معط متصفاً بالعطاء، والأول يفيد أنه سيتصف به ويتبين هذا بقوله إنك ميت فإنه آكد من قوله إنك تموت {وَهُوَ على كُلّ شَيء قَدِيرٌ} تأكيد لما يفيد الاعتراف.


{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)}
لما بين أنهم عند توقف الخير يكونون مبلسين آيسين، وعند ظهوره يكونون مستبشرين، بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها، بل لو أصاب زرعهم ريح مصفر لكفروا فهم منقلبون غير ثابتين لنظرهم إلى الحال لا إلى المآل، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال في الآية الأولى {يُرْسِلُ الرياح} على طريقة الإخبار عن الإرسال، وقال هاهنا {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا} لا على طريقة الإخبار عن الإرسال، لأن الرياح من رحمته وهي متواترة، والريح من عذابه وهو تعالى رؤوف بالعباد يمسكها، ولذلك نرى الرياح النافعة تهب في الليالي والأيام في البراري والآكام، وريح السموم لا تهب إلا في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة.
المسألة الثانية: سمى النافعة رياحاً والضارة ريحاً لوجوه:
أحدها: النافعة كثيرة الأنواع كثيرة الأفراد فجمعها، فإن كل يوم وليلة تهب نفحات من الرياح النافعة، ولا تهب الريح الضارة في أعوام، بل الضارة في الغالب لا تهب في الدهور الثاني: هو أن النافعة لا تكون إلا رياحاً فإن ما يهب مرة واحدة لا يصلح الهواء ولا ينشئ السحاب ولا يجري السفن، وأما الضارة بنفحة واحدة تقتل كريح السموم الثالث: هو أن الريح المضرة إما أن تضر بكيفيتها أو بكميتها، أما الكيفية فهي إذا كانت حارة أو متكيفة بكيفية سم، وهذا لا يكون للريح في هبوبها وإنما يكون بسبب أن الهواء الساكن في بقعة فيها حشائش رديئة أو في موضع غائر وهو حار جداً، أو تكون متكونة في أول تكونها كذلك وكيفما كان فتكون واحدة، لأن ذلك الهواء الساكن إذا سخن ثم ورد عليه ريح تحركه وتخرجه من ذلك المكان فتهب على مواضع كاللهيب، ثم ما يخرج بعد ذلك من ذلك المكان لا يكون حاراً ولا متكيفاً، لأن المكث الطويل شرط التكيف، ألا ترى أنك لو أدخلت إصبعك في نار وأخرجتها بسرعة لا تتأثر، والحديد إذا مكث فيها يذوب، فإذا تحرك ذلك الساكن وتفرق لا يوجد في ذلك الوقت غيره من جنسه، وأما المتولدة كذلك فنادرة وموضع ندرتها واحد.
وأما الكمية فالرياح إذا اجتمعت وصارت واحدة صارت كالخلجان، ومياه العيون إذا اجتمعت تصير نهراً عظيماً لا تسده السدود ولا يرده الجلمود، ولا شك أن في ذلك تكون واحدة مجتمعة من كثير، فلهذا قال في المضرة ريح وفي النافعة رياح.
ثم إنه تعالى لما علم رسوله أنواع الأدلة وأصناف الأمثلة ووعد وأوعد ولم يزدهم دعاؤه إلا فراراً، وإنباؤه إلا كفراً وإضراراً، قال له: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الترتيب فنقول إرشاد الميت محال، والمحال أبعد من الممكن، ثم إرشاد الأصم صعب فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم ما يفهمه بالإشارة لا غير، والإفهام بالإشارة صعب، ثم إرشاد الأعمى أيضاً صعب، فإنك إذا قلت له الطريق على يمينك يدور إلى يمينه، لكنه لا يبقى عليه بل يحيد عن قريب وإرشاد الأصم أصعب، فلهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسهل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع شيئاً، لأن غاية الإفهام بالكلام، فإن ما لا يفهم بالإشارة يفهم بالكلام وليس كل ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة، فإن المعدوم والغائب لا إشارة إليهما فقال أولا لا تسمع الموتى، ثم قال ولا الأصم ولا تهدي الأعمى الذي دون الأصم.
المسألة الثانية: قال في الصم {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} ليكون أدخل في الامتناع، وذلك لأن الأصم وإن كان يفهم فإنما يفهم بالإشارة، فإذا ولى ولا يكون نظره إلى المشير فإنه يسمع ولا يفهم.
المسألة الثالثة: قال في الأصم {لاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} ولم يقل في الموتى ذلك لأن الأصم قد يسمع الصوت الهائل كصوت الرعد القوي ولكن صوت الداعي لا يبلغ ذلك الحد فقال إنك داع لست بملجئ إلى الإيمان والداعي لا يسمع الأصم الدعاء.
المسألة الرابعة: قال: {وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى} أي ليس شغلك هداية العميان كما يقول القائل فلان ليس بشاعر وإنما ينظم بيتاً وبيتين، أي ليس شغله ذلك فقوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} نفى ذلك عنه، وقوله: {وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى} يعني ليس شغلك ذلك، وما أرسلت له.
ثم قال تعالى: {إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون} [النمل: 81] لما نفى إسماع الميت والأصم وأثبت إسماع المؤمن بآياته لزم أن يكون المؤمن حياً سميعاً وهو كذلك لأن المؤمن ترد على قلبه أمطار البراهين فتنبت في قلبه العقائد الحقة، ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة، وهذا يدل على خلاف مذهب المعتزلة فإنهم قالوا الله يريد من الكل الإيمان، غير أن بعضهم يخالف إرادة الله، وقوله: {إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ} دليل على أنه يؤمن فيسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ما يجب أن يفعل فهم مسلمون مطيعون كما قال تعالى عنهم: {قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285].

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14